الحياة بدون الوفاء ستشبه الغابة ، التي لا أمان فيها ولا اطمئنان بها ، الكل يخشى خيانة الآخرين ، ويتوجس خيفة حتى من أقرب الأقربين ، إذ أن الوفاء هو الذي يبعث في النفوس الطمأنينة ، ويُذهب عنها الوحشة والخوف والقلق.
تخيل معي مجتمعاً بلا وفاء ، كيف يأمن الناس على حياتهم وأموالهم ، وهو يتوجس خيفة ، ويتوقع الغدر في أي لحظة.
تخيل معي صداقة بلا وفاء ، كيف سيُفضي الشخص بأسراره وهمومه وهو بطبيعته يحتاج إلى الفضفضة إلى أحد مقربيه ، كيف سيُهوِّن على نفسه وهو يخشى منه كشف الستر ، وانفضاح الأمر.
تخيل معي حياة زوجية بلا وفاء ، كيف ستطمئن الزوجة إلى زوجها وهي قلقة مضطربة ، تخشى غدره وتتوقع خيانته ، وكيف سيطمئن زوج إلى زوجته وهو يخشى نُكرانها للجميل ، وهجرانها للعشير.
تخيل معي حياة أسرية بلا وفاء ، يخشى فيها الآباء جفاء أبنائهم ، وقسوتهم ، وقلة عطاياهم في وقت هم أشد ما يكونون فيه إلى الاحتياج عندما يكبر سنهم ، ويضعف جسمهم.
وغيرها وغيرها من المعاملات الإنسانية ، التي تنقلب بها الحياة إلى معركة شرسة ، يأكل فيها القوي الضعيف ، ويُجهز فيها القادر على المحتاج.
لماذا الوفاء من أخلاق الكبار؟
لأن الوفاء يعني الاعتراف بجميل الآخر ، وحُسن صنيعه ، وهو من شيم أصحاب النفوس الكبيرة التي تحفظ الجميل ، وتبادر إلى مقابلته بالإحسان.
ولأن الوفاء يعني عند الكبار الديمومة حتى بعد الممات ، وهو ما لا يقدر عليه إلا أصحاب النفوس الكبيرة ، الذين وطّنوا أنفسهم على أداء الحقوق التي أخذوها على عاتقهم ، وألزموا بها أنفسهم حتى ولو كانت هذه الحقوق لمن رحلوا عن دنيانا.
ولأن الوفاء يعني للكبار الوفاء بالعهد والميثاق ولو تحاملوا على أنفسهم ، أو كلفهم ذلك فوق طاقتهم.
ولأن الكبار فقط هم الذين لا يعتبرون الكلمات التي تخرج من أفواههم ، والوعود التي يقطعونها على أنفسهم كلمات طائرة غير مسئولة ، بل يسعون للوفاء بها لأنها في نظرهم مسئولية سُيحاسبون عليها أمام الله.